فصل: مسألة أوصى أخا له أن يشتري له شيئا بالمديونة فابتاعه بدرهم ونصف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة بعث رجلا ليقتضي له دينا على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل بعث رجلا، ليقتضي له دينا على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه، قال: لا بأس بذلك على وجه الجعل، ومثل ذلك الرجل يقول للرجل: اخرج في طلب عبيد لي أبقوا، أو إبل لي ضلت، فما جئتني به من عبد أو بعير فلك فيه دينار، وليس يشبه قوله: ما جئتني به من عبد أو بعير فلك نصفه؛ لأن العبد والبعير يزيدان وينقصان، وأن الدنانير لا تزيد ولا تنقص ما اقتضى من دينار فله نصفه أو ثلثه، فهذا باب لا يزول.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي بعث رجلا ليقتضي له دينا، على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه: إن ذلك لا بأس به على وجه الجعل؛ صحيح لأن المعاملة على اقتضاء الدين بجزء منه إذا لم يسم له عدده لا يجوز إلا على وجه الجعل.
وقوله: اقبض مالي على فلان، ولك من كل شيء تقتضي منه نصفه أو ثلثه محمول على الجعل، وإن لم يصرحا بذلك لا يلزم المجعول له، وإن شرع في التقاضي، وله أن يترك متى شاء، ويلزم الجاعل قيل بالعقد، وقيل بشروع المجعول له في الاقتضاء على ما سيأتي القول فيه في رسم العتق، من سماع عيسى، وأما إذا سمى عدده، فتجوز المعاملة على اقتضائه بجزء منه على وجه الإجارة، بأن يقول: أستأجرك على اقتضاء مائة دينار لي على فلان بنصفها أو بثلثها؛ فتكون إجارة لازمة لهما، ليس لأحدهما أن يرجع عنها بعد العقد، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء، فتكون إجارة له فيها الخيار.
وهذا إذا كان قدر العمل في اقتضائها معروفا، وأما إن لم يكن معروفا، فلا تجوز الإجارة في ذلك إلا بضرب الأجل: يقول أستأجرك شهرا على أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان بنصفها، أو بكذا وكذا، فإن مضى الشهر وجب له أجره اقتضى الجميع أو بعضه، أو لم يقتض شيئا، وإن اقتضاها قبل الأجل، كان له من أجره بحساب ما مضى منه على حكم الاستئجار، على بيع السلعة سواء في جميع الوجوه.
ويجوز أيضا على وجه الجعل بأن يقول: أجاعلك على أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان بنصفها أو بثلثها، وما اقتضيت من شيء فبحساب ذلك، فإن لم يقل: فما اقتضيت من شيء فبحساب ذلك لم يجز، وكان جعلا فاسدا. واختلف إذا لم يصرح بذكر الإجارة ولا الجعل، وقال: اقتض لي مائة دينار على فلان، ولك نصفها، فقيل: إن ذلك محمول على الإجارة، وقيل: إنه محمول على الجعل، فمن حمله على الإجارة قال: ذلك جائز؛ لأنه يجوز للرجل أن يستأجر الرجل على أن يقتضي له مائة دينار له على فلان بنصفها أو بجزء منها، وهو معنى قول ابن القاسم في أول رسم، من سماع أصبغ، ودليل قول ابن وهب فيه؟ ومن حمله على الجعل قال: ذلك غير جائز، قيل: لأنه جعل فاسد؛ إذ لم يقل فيه: وما اقتضيت من شيء فبحسابه، وقيل: لأن الجعل على اقتضاء الديون بالجزء منها، لا يجوز على حال، وهو قول أشهب في سماع أصبغ، وأما إن قال: اقتض لي مائة على فلان، ولك نصفها، وما اقتضيت من شيء منها فعلى حسابه، فلا اختلاف بينهم في أن ذلك محمول على الجعل، وأن ذلك جائز إلا على مذهب أشهب الذي لا يرى المجاعلة على اقتضاء الديون جائزة، وإن سمى عددها، وشرط أن له مما يقتضي منها بحساب ذلك.
وقوله: إنه يجوز أن يقول الرجل للرجل: اخرج في طلب عبيد لي أبقوا، أو إبل لي ضلت، فما جئتني به من ذلك فلك نصفه بين لا إشكال فيه، ولا اختلاف؛ لأن الجعل في المجاعلة لا يكون مجهولا، وإنما يجوز المجهول فيها في العمل، وفي إجازتهم المجاعلة على حصاد الزرع وجذاذ النخل واقتضاء الديون، ولقط الزيتون على أن له من كل ما يحصد، أو يجذ، أو يقتضي، أو يلتقط جزءا نصفا أو ثلثا نظر، فقد رأيت في مسائل منتخبة لابن لبابة، قال ابن القاسم: كل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به، وجاز أن يجعل جعلا، وما لم يجز بيعه، لم يجز الاستئجار به، ولا أن يجعل جعلا لرجل إلا خصلتان في الذي يجعل لرجل على أن يغرس له أصولا، حتى تبلغ حد كذا، ثم هي والأصل بينهما، فإن نصف هذا لا يجوز بيعه؛ وفي الذي يقول: القط زيتوني، فما لقطت من شيء فلك نصفه، فإن هذا يجوز، يريد وبيعه لا يجوز. قال: وقد روي عن مالك: أنه لا يجوز، ولم يختلف قوله في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار، فيقول: ما اقتضيت من شيء من ديني فلك نصفه، وهما سواء.
قال محمد بن رشد: ما هما سواء، والفرق بينهما أن اللقط أوله أسهل وأيسر من آخره؛ لأنه كلما خف وقر الزيتون قل ما يلتقط منه في اليوم، ألا ترى أنه إذا كان كثير الوقر لقط على العشر وأقل من ذلك، وإذا كان خفيف الوقر لقط على النصف وأكثر من ذلك، فإذا جاعله على أن يلقط منه ما شاء بالثلث أو الربع كان غررا؛ لأنه لا يدري إن كان يستوفي لقط جميعه، أو يترك له منه بعضه، وهو إن ترك له منه اليسير لم يستأجر على لقطه إلا بالكثير، ولعل الإجارة على لقطه تستغرقه، فالأظهر من القولين ألا تجوز المجاعلة على لقطه بالجزء منه على حال، ولا تجوز في ذلك إلا الإجارة على جميعه بأن يقول: القطه كله ولك نصفه أو ثلثه.
وأما المجاعلة على اقتضاء الدين بجزء مما يقتضي منه، فأشهب لا يجيزه، والأظهر أنه جائز؛ إذ لا فرق بين أوله وآخره في العناء في اقتضائه.
وأما الحصاد والجذاذ، فلا خلاف بينهم في جواز المجاعلة فيه على الجزء منه، بأن يقول له: جذ من نخلي ما شئت، أو احصد من زرعي ما شئت على أن لك من كل ما تحصد أو تجذ جزءا كذا لجزء يسميه، ووجه جواز ذلك باتفاق هو أن الحكم فيه أن الجعل عليه لا يلزم واحدا منهما، للمجعول له أن يخرج متى شاء، وللجاعل أن يخرجه متى شاء؛ إذ لو كان الحكم فيه أن يلزم الجاعل، ولا يلزم المجعول له لما جاز؛ لأن الجعل كان يكون فيه ما لا يجوز بيعه، وذلك غرر لو أراد رجل أن يبيع نصف ما يحصد رجل في يوم أو يومين، أو نصف ما يجذ في ذلك، لم يجز. وكذلك الحكم في قوله: القط زيتوني هذا، فما لقطت منه من شيء فلك نصفه، فإنما لم يجز على القول بأنه لا يجوز لما ذكرناه من أنه لما كان للمجعول له أن يترك متى شاء، وأوله أيسر في اللقط من آخره، دخله الغرر؛ إذ لا يدري الجاعل هل يستوفي المجعول له لقط جميعه، أو يترك منه بعضه، فيلزم على ما قلناه في المجاعلة على اقتضاء الديون بالجزء مما يقتضي منها، إذا كان الحكم فيها أن يلزم الجعل للجاعل بشروع المجعول له، ألا يجوز الجعل في ذلك؛ لأن الجعل فيه يكون غررا؛ ألا ترى أنه لو أراد بيع ما يقتضي المجعول له في يوم أو يومين لم يجز، ولهذه العلة لم يجز ذلك أشهب، والله أعلم، لا لما قاله أصبغ من أنه رآه من باب الجعل في الخصام؛ إذ قد يكون مقرا بالديون، فلا يكون فيه خصام، وإن كان الحكم في ذلك ألا يلزم واحدا منهما كالحصاد واللقط، وإنما لم يجز ذلك أشهب؛ لأنه رأى اقتضاء أول الدين أيسر من آخره، فأشبه اللقط عنده، ولذلك لم يجزه، وهذا أظهر من التأويل الأول، وبالله التوفيق.

.مسألة جعل لرجل في عبد له أبق جعلا إن جاء به وقد أنفق عليه نفقة:

قال ابن القاسم، وقال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: من جعل لرجل في عبد له أبق جعلا إن جاء به، وقد أنفق عليه نفقة، فالنفقة من الذي جاء به، والجعل له فقط، وإن أرسله بعد أن أخذه تعمدا ضمن العبد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الجعل إنما جعله له على أن يأتيه به ويوصله إليه، فلا يلزم الجاعل للمجعول له إذا أتاه بعبده سوى الجعل الذي جعل له فيه، وإن وجده في مكان بعيد من سيده يستغرق الإنفاق عليه إلى أن يصل إلى سيده الجعل الذي جعل له فيه، أو لعله يزيد على ذلك، فليرفع ذلك إلى قاضي ذلك الموضع ينظر فيه لسيده بما يراه من سجنه أو بيعه، ويحكم له بجعله، فإن لم يفعل وأرسله بعد أن أخذه ضمن كما قال؛ لأنه قد أتلفه عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة أعطى رجلا متاعا يبيعه فيها على أنه إن باعه فله جعل قد سماه:

قال ابن القاسم: قال مالك فيمن أعطى رجلا متاعا يذهب به إلى بلد آخر يبيعه فيها على أنه إن باعه فله جعل قد سماه، وإن لم يبع فلا شيء له، قال: لا خير في هذا إلا بأجر معلوم، ولا يشبه هذا أن يدفع رجل متاعا إلى رجل معه في بلد واحد، فيتعرض به في السوق، فإن باعه فله جعل مسمى، وإن لم يبع فلا شيء له، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا متى ما شاء أن يرد السلعة ردها، ولا يلزمه بيعها، ولم يدخل عليه في ردها مئونة، وأن الذي يخرج بالبز أو الطعام أو الدواب إلى بلد آخر، إن بدا له في تركها لم يخرج منها إلا بمئونة وعلاج حتى يردها إلى صاحبها أو إلى من أمره، فلا أحب هذا إلا بأجر معلوم ثابت، ولا يجوز في الحاضر في الثياب الكثيرة مثل العكام وما أشبهه، وأما الثوبان أو الثلاثة وما أشبه ذلك، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز الجعل على بيع الثياب في بلد آخر؛ لأن حكم الجعل ألا يلزم المجعول له التمادي على العمل، وإن شرع فيه من أجل أنه غرر، ومن شروطه ألا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل، فإن خرج بالثياب إلى ذلك البلد، ثم أراد ترك بيعها انتفع الجاعل بحمله إياها إلى ذلك البلد، وإن ردها لزمه في ردها مئونة وعلاج فيما لا منفعة له فيه، فكان الغرر والفساد حاصلا على أي وجه كان من الوجهين، فوجب ألا يجوز، وإنما لم يجز الجعل على بيع الثياب الكثيرة في البلد؛ لأنه إن بدا له في بيعها وردها إلى صاحبها كان قد انتفع بحفظه لها طول كونها في يديه، ليس من أجل أن الجعل لا يجوز في الكثير، وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره، فليس بصحيح، والصحيح أن الجعل يجوز في الكثير من الأعمال التي لا يكون للجاعل فيها منفعة إلا بتمام العمل، كطلب الإباق وحفر الآبار، ولذلك قال ابن المواز: إن المجاعلة على حفر الآبار لا تكون إلا فيما لا يملك من الأرضين، ولا يجوز في القليل منها التي يكون للجاعل فيها منفعة قبل تمام العمل، فهذا هو الأصل الذي يطرد ولا ينخرم، ألا ترى أنه لا تجوز المجاعلة على خياطة الثوب، ولا عمل اليوم، ولا على اقتضاء الدين اليسير بجزء منه إذا لم يكن له من كل ما يقتضيه بحسابه، من أجل أنه إذا لم يتم العمل انتفع الجاعل بما مضى منه، وبالله التوفيق.

.مسألة استؤجر على رقيق يأتي بهم فلم يجدهم:

وقال مالك: من استؤجر على رقيق يأتي بهم، فلم يجدهم فقد وجب حقه، وإن وجدهم ببعض الطريق، فللذي استأجره أن يبعثه إلى ذلك المكان أو يستأجره في مثله. قال مالك: وكذلك الرجل يتكارى الدابة إلى حاجة، فتأتيه الحاجة، فيلزمه الكراء، وتكون له الدابة يكريها إلى الموضع الذي تكاراها إليه إن شاء الله.
قال ابن القاسم: ومن استؤجر على مثل هذا، واشترط عليه النقد على أن يحاسبه إن جاء برقيقه، أو وجد متاعه ببعض الطريق، فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وإن لم يشترط شيئا من ذلك فالكراء لهما جميعا لازم إلى ذلك الموضع.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن استأجر على رقيق يأتي بهم فلم يجدهم إن حقه وجب، معناه إن كان استؤجر على أن يأتي بهم مشاة أو على دواب المستأجر، وأما إن كان استؤجر على أن يأتي بهم على دوابه، فلم يجدهم فالحكم في ذلك حكم من أكرى دابة على أن يسوق له طعاما من بلد آخر وسيره إلى وكيله، فذهب الكري فلم يجد الوكيل. وفي وجه الحكم في ذلك تفصيل سيأتي القول عليه إن شاء الله في موضعه، وهو أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب.
وأما قوله: إنه إن وجدهم ببعض الطريق، فللذي استأجره أن يبعثه إلى ذلك المكان، أو يواجره في مثله، فمساواته فيه بين أن يبعثه إلى ذلك المكان أو يواجره في مثله؛ خلاف أصله في المدونة، في أن من أكرى دابة إلى موضع، فليس له أن يركبها إلى غيره إلا برضا المكتري، فعلى قوله في المدونة، ليس له أن يواجره في مثله إلا برضاه، فإن لم يرض بذلك ولم يبعثه إلى ذلك المكان بعينه رجع، وكان له كراؤه كاملا، وعلى قول غيره في المدونة: لا يجوز أن يواجره في غيره، وإن رضي بذلك؛ لأنه فسخ دين في دين، فإما أن يبعثه إلى ذلك الموضع بعينه، وإلا رجع وكان له كراؤه كاملا، وعلى هذا اختلفوا فيمن اكترى دابة إلى بلد، فرجع من الطريق، هل له أن يركبها في مثل ما بقي منه، فقال ابن نافع: ليس ذلك له، وعليه الكراء كاملا، وقال ابن القاسم: إن كان إنما سار البريد والبريدين وما أشبههما، فله أن يركبها أو يكريها إلى مثل ما قصر عنه من سفره، إلا أن يتراضيا على شيء معلوم، وإن كان سار جل الطريق، ثم ردها رأيت جميع الكراء لصاحبها.
وقع قول ابن نافع، وابن القاسم هذا، في آخر سماع عيسى، من كتاب كراء الرواحل والدواب في بعض الروايات، وقد اختلفوا على هذا الأصل فيمن استعار دابة إلى موضع، فركبها إلى موضع غيره مثله في الحزونة والسهولة والبعد فهلكت، روى علي بن زياد، عن مالك، في سماع سحنون، من كتاب العارية، أنه لا ضمان عليه، وقاله عيسى بن دينار في المبسوطة، وقال ابن القاسم فيها: إنه ضامن، وقوله: إنه إن اشترط عليه النقد على أن يحاسبه إن جاء برقيقه أو وجد حاجته في بعض الطريق؛ أنه لا خير فيه بين لا إشكال فيه على أصولهم؛ لأنه يدخله الأجرة والسلف، ولو اشترط عليه النقد، ولم يشترط المحاسبة سكت عنها لجاز على كلا القولين؛ لأن ما يوجبه الحكم من المحاسبة على أحد القولين، إذا لم يشترطاه لا يتهمان عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى أخا له أن يشتري له شيئا بالمديونة فابتاعه بدرهم ونصف:

وقال مالك: من أوصى أخا له أن يشتري له شيئا بالمديونة، فابتاعه بدرهم ونصف، وأعطى في النصف حنطة، قال: يأخذ منه في النصف درهم فلوسا أو عروضا، فإن أخذ حنطة، فلا يأخذ إلا مثل كيل طعامه الذي أعطى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الحنطة التي أعطى في نصف الدرهم إنما هي سلف منه له، فهو يجوز له أن يأخذ منه فيها ما شاء من الفلوس أو العروض أو الطعام المخالف للحنطة، فإن أخذ منه طعاما من صنف الحنطة، فلا يأخذ إلا مثل كيلها، وبالله التوفيق.

.مسألة الخلالة تجمع على النصف:

ومن كتاب قطع الشجر:
وسئل عن الخلالة تجمع على النصف، فكره ذلك، ونهى عنه وقال: هذا غرر لا يدري كم ذلك، ولا ما هو؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه، وليس هذا مثل الزرع والثمر الذي ينظر إليه، فيقول: ما حصدت من شيء أو جنيته فلك ربعه. والخلالة ما سقط من التمر، ووجد بين الكرانيف والسعف، فهو يخرج ويجمع ويسقط فيه تمر، وهذا الباب والباب الأول مختلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن ما لا يجوز بيعه فلا يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه، ولا المجاعلة عليه بجزء منه، ولا إشكال في أن بيعه لا يجوز؛ إذ لا يحاط بقدره لاختفائه بين الكرانيف والسعف، فهو من بيع الغرر، فكذلك الاستئجار عليه بجزء منه، والمجاعلة عليه بجزء منه؛ إذ من شرط صحة المجاعلة أن يكون الجعل فيها معلوما.
فإن قيل: أليس يجوز أن يقول الرجل للرجل ما اقتضيت من مالي الذي لي على فلان، فلك نصفه أو ثلثه، ولا يسمي مبلغه؟ فإذا جاز أن يقتضي الدين على جزء منه مع الجهل بمبلغه جاز أن تجمع الخلالة على الجزء منها مع الجهل بمبلغها. قيل له: الدين وإن لم يعلم مبلغه عند المجاعلة على اقتضائه بجزء منه لغيبة ذكر الحق عنهما حينئذ، وما أشبه ذلك، فهو لا يعمل في الاقتضاء حتى يعلم مبلغه؛ إذ لا يصح أن يقتضي مجهولا، والخلالة مجهولة أبدا، فهو لا يعمل فيها إلا على مجهول يطبه أبدا فافترقا، وبالله التوفيق.

.مسألة قوم اشتروا سلعة ثم أرادوا يتبايعونها فأرادوا أن يكتبوا من حضرهم:

وسئل مالك عن قوم اشتروا سلعة، ثم أرادوا يتبايعونها، فأرادوا أن يكتبوا من حضرهم، فقال رجل منهم: اجعلوا لي حظا مثل حظي، أو مثل حظ رجل من الربح، وأنا أكتب لكم الناس، فقال: هذا مكروه بين، وذلك أنه يصير أجيرا بشيء لا يدري ما هو بربح، إن كان في السلعة ربح، وإن لم يكن ربح، فليس له شيء، وذلك أن الربح أيضا يقل ويكثر، فهذا غرر لا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لا إشكال فيه ولا وجه للقول، وبالله التوفيق.

.مسألة الخياط الذي بيني وبينه الخلطة ولا يكاد يخالفني:

ومن كتاب سلعة سماها:
وسئل مالك عن الخياط الذي بيني وبينه الخلطة، ولا يكاد يخالفني أستخيطه الثوب، فإذا فرغ منه وجاء به أراضيه على شيء أدفعه إليه، قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه مما قد استجازه الناس ومضوا عليه، وهو من نحو ما يعطى الحجام من غير أن يشارط على عمل قبل أن يعمله، وما يعطى في الحمام، والمنع من مثل هذا وشبهه تضييق على الناس، وحرج في الدين وغلو فيه؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77]، ومما يدل على جوازه من السنة ما ثبت من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه». وقد كره النخعي أن يستعمل الصانع حتى يقاطع على عمله بشيء مسمى، وكره ذلك ابن حبيب أيضا، وقال: إنه لا يبلغ به التحريم، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله، وبه التوفيق.

.مسألة رجل يهلك ويترك ميراثا فيشارط رجل على بيعه وتقاضيه ويجعل له فيه جعل:

ومن كتاب أوله شك في طوافه:
وسئل مالك عن رجل يهلك ويترك ميراثا فيشارط رجل على بيعه وتقاضيه، ويجعل لي فيه جعل، قال: إني لأكره ذلك، ولعل ثمنه يكثر، وليس تقاضي ما كثر منه مثل تقاضي ما يقل، ولا يعجبني أن يعمل به وكرهه.
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المجاعلة بين، والفساد فيها ظاهر، والمنع منها واجب. وقوله فيها: أكره ذلك، ولا يعجبني أن يعمل به، تجوز منه في العبارة على عادته في قوله، في كثير من مسائله، أكره هذا، ولا أحبه، ولا يعجبني فيما لا يجوز عنده ولا يحل.
والعلة في أن ذلك لا يجوز ما مضى القول فيه في أول رسم من أن الجعل لا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل الذي يجب به الجعل للمجعول له؛ لأن المجعول له لا يلزمه التمادي على العمل من أجل أنه لا يدري، هل يتم له أم لا يتم، فإذا لم يلزمه وتركه أخذ الجاعل ما مضى من عمله باطلا بغير شيء، وذلك من أعظم الغرر، وبيان ذلك أنه إذا شارطه على بيع جميع الميراث، وتقاضى ثمنه، وهو غير ما شيء من عروض وأثاث وأصول، وما أشبه ذلك بجعل يسميه له على ذلك، قد يبيع الأكثر ويتقاضى ثمنه، ثم يكره بيع الباقي، أو يعجز عنه، أو يموت فيذهب عناؤه باطلا، ويحصل الورثة عليه دون شيء يلزمهم؛ إذ لا شيء للمجعول له من الجعل إلا بتمام العمل، فهذه العلة في أن ذلك لا يجوز.
وقوله: ولعل ثمنه يكثر، وليس تقاضي ما كثر منه مثل تقاضي ما يقل، معناه أن الغرر في الكثير من ذلك أكثر من الغرر في القليل، لا أن ذلك يجوز في القليل، بل لو جاعله على بيع أشياء كثيرة يسيرة الثمن لا تباع صفقة واحدة بجعل واحد لما جاز؛ لأنه إن باع الأكثر، وعجز عن الأقل لم يكن له شيء، وحصل الجاعل على ما مضى من عمل باطلا بغير شيء.
وإنما يجوز الجعل على أشياء كثيرة إذا سمى في كل شيء منها جعلا معلوما، وكذلك لو جاعله على بيع أشياء كثيرة، وسمى لكل شيء بيع منها جعلا مسمى؛ لجاز إن لم تكن عنده، فكان يستقل بها عن حوائجه، ويكفي ربها مؤنتها، وكانت عند ربها كلما باع منها شيئا بما سمى له فيه من الثمن، أو بما رآه استوجب فيه جعله، وأخذ سواه فعرضه للبيع، فإن باعه استوجب فيه جعله أيضا حتى يأتي على آخرها، إلا أن يشاء أن يترك فيكون ذلك له، وبالله التوفيق.

.مسألة يجعل للرجل يصيح على الرقيق يبيعهم فيمن يزيد:

ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان:
وسئل مالك عن الرجل يجعل للرجل يصيح على الرقيق يبيعهم فيمن يزيد، فما باع فله في كل رأس درهم، قال: أرأيت إن لم يبع فهل له شيء؟ قيل: لا، قال: فهذا لا يصلح إلا أن يجعل له شيئا معلوما باع أو لم يبع في ساعة أو يوم أو يومين. قيل له: أفرأيت الثوب يبيعه على أن له درهما؟ قال: ليس الثوب مثله، هو ينتفع بمنافع غيره عسى أن يكون معه أثواب غيرها يبيعها وينتفع بغير ذلك، وإن هذا لا ينتفع بشيء وهو يشغله عن حوائجه كلها، فلا يصلح إلا بإجارة معلومة باع أو لم يبع إلى أجل معلوم يبيعه في ساعة أو يوم أو يومين، ولم يره مثل الدابة والثوب يقول الرجل للرجل: صح عليه وإن بعته فلك درهم، قال: لا بأس بهذا، قال سحنون جيدة جدا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز أن يجعل الرجل للرجل الجعل في الصياح على الرقيق، فيمن يزيد على أن له في كل رأس يبيعه درهما لوجهين؛ أحدهما: أن الرقيق الكثير يشتغل بحفظها فتمنعه من حوائجه، ويكون قد كفى صاحبها مئونتها في ذلك، فإن ردها ولم يبعها كان صاحبها قد انتفع بذلك، والجعل لا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل الذي يجب به الجعل للمجعول له؛ والثاني أنه لم يسم له ثمنا، ولا فوض ذلك إلى اجتهاده، فهو يصيح عليها في مناداتها، ولا يدري هل يعطى فيها ما يرضى به ربها أم لا، فلذلك قال: إن ذلك لا يجوز إلا على الإجارة في ساعة أو ساعتين، أو يوم أو يومين، باع أو لم يبع، وأجاز أن يعطيه الدابة أو الثوب، فيقول له: صح عليه، فإن بعته فلك درهم، ومعناه إذا سمى له ثمنا أو فوض إليه الاجتهاد في ذلك، ولم يكن على يقين من إمكان بيعه في الحين، وأما إن كان على يقين من وجود الثمن فيه، وبيعه في الحين فلا يجوز في ذلك الجعل؛ لأن الجعل لا يكون إلا في المجهول من الأعمال، أو ما طال منها مما لا منفعة للجاعل فيها إلا بتمامها، وسيأتي هذا من قول ابن القاسم، في سماع محمد بن خالد، وبالله التوفيق.

.مسألة الصياح على رأس يبيعه على جعل معلوم:

ومن المدنية من كتاب أوله الرجل يحلف بطلاق امرأته قلت: عندنا ربما واجرنا الصياح على رأس يبيعه على جعل معلوم، يقال له: صح حتى أرضى بالبيع، وأبيع فردده أياما، قال: لا خير في هذا، يقوله ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا الرسم والمسألة الواقعة فيه وقعت في بعض الروايات، والمعنى فيها صحيح، وهي تدل على صحة تأويلنا في المسألة التي قبلها، فإن وقع ذلك كان له أجر مثله باع أو لم يبع، وبالله التوفيق.

.مسألة الآبق يجعل فيه الرجل الجعل:

من كتاب حديث طلق بن حبيب وسئل مالك عن الآبق يجعل فيه الرجل الجعل، يقول: إن وجدته فلك كذا وكذا، وإن لم تجده فلك نفقتك وطعامك وكسوتك، فقال: لا خير في هذا. قال ابن القاسم: فإن وقع هذا رأيت أن يعطى جعل مثله إذا وجده. قال ابن القاسم: وإن لم يجده فله أجر مثله، أصبغ عن ابن القاسم: لا أجرة فيه.
قال محمد بن رشد: اختلف في الجعل الفاسد إذا وقع على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يرد إلى حكم نفسه فيكون له جعل مثله إن أتى به، ولا يكون له شيء إن لم يأت به، وهي رواية أصبغ، عن ابن القاسم هذه. والثاني: أنه يرد إلى حكم غيره، وهي الإجارة التي هي الأصل، فيكون له أجر مثله أتى به أو لم يأت به؛ والثالث: أنه إن كان لم يخيبه إن لم يأت به كنحو هذه المسألة التي قال له فيها، فإن لم تجده فلك نفقتك، وإن وجدته فلك كذا وكذا، كان له إجارة مثله أتى به أو لم يأت به، وإن كان لم يسم له شيئا إلا في الإتيان به، كان له جعل مثله إن أتى به، ولم يكن له شيء إن لم يأت به.
وجه القول الأول: أن الجعل لما جوزته السنة صار أصلا في نفسه، فوجب أن يرد فاسده إلى صحيحه قياسا على سائر العقود الجائزة من البيع والإجارة.
ووجه القول الثاني: أن الجعل إجارة بغرر جوزته السنة، ويخصص من أصله إذا وقع على الشروط التي أجازته بها، فإذا لم يقع عليها رجع إلى أصله، فكان إجارة فاسدة، يحكم فيها بحكم الإجارة الفاسدة.
ووجه القول الثالث: أنه إنما هو جعل إذا جعل له الجعل على الإتيان به خاصة، وأما إن جعل له في الوجهين، فليس بجعل، وإن سمياه جعلا، وإنما هو إجارة، فيحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، وهذا القول أظهر الأقوال، وإياه اختار ابن حبيب، وحكاه عن مالك، وعن مطرف، وابن الماجشون.
وهذه الثلاثة الأقوال راجعة على الأصل، وجارية على قياس، وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن له جعل مثله إذا لم يجده، فليس يرجع إلى أصل، ولا يجري على قياس، وكذلك قوله في المدونة في الذي يقول للرجل: إن جئتني بعبدي الأبق فلك نصفه أنه يكون له إجارة مثله إن أتى به، وإن لم يأت به، فلا جعل له ولا إجارة لا حظ له في القياس والنظر، وبالله التوفيق.

.مسألة يبعث مع الرجل بالخادم يبلغها إلى موضع ويجعل له في ذلك جعلا:

وسئل مالك عن الرجل يبعث مع الرجل بالخادم يبلغها إلى موضع، ويجعل له في ذلك جعلا، فينام في بعض الطريق فتهرب فتأبق منه، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا ضمان عليه. قيل له: أتكون له أجرة؟ قال: يكون له بحساب ما بلغ.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها إجارة، ولذلك أوجب له من أجرته بحساب ما بلغ؛ لأن الجعل في ذلك لا يجوز على ما مضى في أول رسم من السماع، ولو كانت جعلا لم يجب له فيما سار شيء إلا على القول بأن الجعل الفاسد، إذا فات يرد فيه إلى إجارة مثله. وكذلك من استأجر رجلا على تبليغ كتاب، فسقط منه في الطريق يكون له من أجرته بحساب ما سار، ولو كان جعلا لم يكن له فيما سار شيء، ولو قال له: إن بلغته في يوم كذا وكذا، فلك كذا وكذا، فهذا إن بلغه في ذلك اليوم وجب له جعله، وإن قصر عنه لم يكن له شيء.
قال ابن حبيب: إلا أن يكون تقصيره عنه بالأمر القريب الذي لا ينقطع فيه انتفاع الجاعل بالتبليغ، فتكون له إجارة مثله. قاله ابن حبيب، وهو على أحد الأقوال في الذي يجعل للرجل في حفر بئر، فيحفر بعضها ثم يتركها، فيتم صاحبها حفرها بإجارة أو مجاعلة حسبما يأتي القول فيه في الرسم الذي بعد هذا. ولو وقع الجعل على هذا أي الإجارة، فنام في بعض الطريق، فذهبت الخادم لم يكن له شيء فيما مضى من الطريق؛ لأن له سببا في ذهابها، ولو ماتت في بعض الطريق لوجب له من جعله بحساب ما مضى منه؛ إذ لا سبب له في موتها، فمعنى قوله في المسألة: ويجعل له في ذلك جعلا؛ أي ويسمي له في ذلك أجرا؛ لأنها إجارة على ما ذكرناه. وقوله: إنه لا ضمان عليه في إباقها منه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الأجير لا يضمن ما تلف مما استؤجر عليه، إلا أن يضيع أو يفرط، وهو محمول على غير التفريط حتى يثبت عليه التفريط والتضييع، فإن لم يثبت ذلك عليه فالقول قوله مع يمينه أنه ما ضيع ولا فرط.
وأما قوله: إنه يكون له من أجره بحساب ما بلغ؛ ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن له الأجرة كلها ماتت أو أبقت، ويستعمله المستأجر في مثل ما بقي من الطريق، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا؛ والثاني: أن الإجارة تنفسخ ماتت أو أبقت، ويكون له من إجارته بقدر ما سار من الطريق، وهو قول ابن وهب في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا، وقول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب الرواحل والدواب؛ لأنهما قالا فيها: إن الإجارة تنفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله، وإن لم يكن للأجير في تلفه سبب، فهو إذا كان له في تلفها سبب من نوم أو غفلة أحرى أن ينفسخ. والثالث: الفرق بين أن تموت أو تأبق، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا، وينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقوله في هذه الرواية؛ لأنه تكلم فيها على الإباق وسكت عن الموت، وهذه التفرقة نحو تفرقته في المدونة بين أن يأتي تلف الحمل الذي استؤجر على حملانه من قبل الله تعالى، أو من قبل ما عليه استعمل، إلا أنه قال: لا ضمان عليه ولا كراء له، فهو قول رابع في المسألة، وبالله التوفيق.